في مشهد من فيلم « The Unforgivable »، تتمحور حوله قصة الفيلم، تصرخ الممثلة ساندرا بولوك التي تلعب دور « روث سلايتر » عدة مرات « !We’re not leaving » « لن نرحل! » وإلى جانبها أختها الصغيرة ذات الخمس سنوات خائفة. تكمن براعة الممثلة بجعلنا نرى الخوف من المجهول، من ضياع أختها منها، والغضب من عالم قاس لا يراعي ظروف الضعفاء من خلال تعابير وجهها المفعمة بالحزن والثورة على الرجال الخمس خارج منزلها يدعونها لإخلائه فورا لأنه كان مرهونا وأصبح ملكا للمصرف.
هل يعلم الكاتب الأميركي Peter Craig والمخرجة الألمانية Nora Fingscheit وبطلة الفيلم الأميركية Sandra Bullock أنهم جسدوا بشكل طفيف مشاعر ومخاوف يعيشها الفلسطينيون منذ ما قبل عام ١٩٤٨ وحتى يومنا هذا؟
في الفيلم يقف القانون مع المصرف ضد البطلة، فالمنزل كان مرهونا وبما أن الدين لم يسد فهو من حق المصرف الآن. كلنا نعترف بهذا، مع ذلك لا تستطيع مشاعرنا إلا التعاطف مع « روث » ومشاركتها الخوف على أختها. فكيف نشعر حيال من أجبروا على الخروج من منازلهم وهدمت دورهم تحت تهديد السلاح والمحاكم الظالمة والمجازر الدامية دون وجه حق؟ وما يزالون يعانون من كل ما ذكرت، ولا نزال نرى الأمثلة الحية في عصرنا هذا كالذي يحصل في منطقة بئر السبع (النقب) وحي الشيخ جراح وحي سلوان وغيرها من المناطق الفلسطينية المهددة بالتهجير والهدم!
في الفيلم نعلم منذ البداية أن البطلة قد ارتكبت جرم القتل إلا أننا على يقين تام بمظلوميتها وهو ما تؤكده لنا الأحداث المتتابعة وعينا الممثلة التي تحمل فيهما حزنا قديما وروح مثقلة. فكيف للعالم يرى على مدار أكثر من سبعين عاما مشاهد تهجير الفلسطينيين وسرقة أراضيهم وطردهم منها وحرمهم أبسط حقوقهم الإنسانية وهو لا يزال يبت في القضية بين مؤيد ومتوجس ومعارض أحمق!
إن اللحظات العنيفة التي تعيشها « روث » مع أختها في مشهد الإجبار على الإخلاء ترافقهم طوال حياتهما وتقض من مضجعيهما، فكيف يعيش الفلسطيني الذي لا ينفك يعاني ذكرايات التهجير وتبعاته؟ والفلسطيني المهدد بالطرد من أرضه في أي لحظة دون أن يحرك العالم ساكنا؟ دون أن يحاسب الاحتلال على الجرائم البشعة التي ارتكبها بحقهم، على الأقل من منظور القانون الدولي، الذي، حتى هو، لا يمكن أن ينصفهم حق الإنصاف، ولكن أقله لنبدأ من مكان ما.
في مشهد آخر تعود « روث » لزيارة بيتها القديم وبغض النظر عن تذكرها للحادثة الأخيرة التي عاشتها فيه، فهي تنظر إلى خزانة صغيرة كانت قد صنعتها بنفسها، الحنين إلى الأشياء التي يبنيها الإنسان، وإلى نافذة المطبخ، الحنين إلى الأشياء التي رافقت أيامه. لحظات تجعل من كل مكان آخر في هذه الدنيا مجرد أبعاد هندسية لا روح فيها. ومع أن الفلسطيني يملأ بروحه المحبة للحياة كل الأماكن التي تطأها قدماه، إلا أن لأرضه تأثير مضاعف على روحه ولروحه أصالة مختلفة عندما يكون في أرضه.
أما حالة الشتات التي تعيشها البطلة مع أختها بعد الحادثة فقد أصبحت جزءا لا يتجزأ من هوية الفلسطيني أينما كان. أسر ممزقة، إما في الاغتراب أو في المعتقلات أو أجسادا مهيبة تحت تراب الوطن!
ليس لأننا نحب فلسطين نراها في كل شيء، بل لأنها منبع الحياة والخير ولأنها تعلمنا حقا معنى العدالة والحق والمساواة والانتماء والكرامة والثورة! فلسطين هي كل المعاني السامية!
وليس لقلة الأعمال العربية التي تحدثت عن تهجير الفلسطينيين ومعاناتهم أتطرق لفيلم أجنبي، إنما لمقاربة الأحداث من وجهة نظر عالمية قد تساهم في نشر القضية أكثر وفي حصاد من ينضم إلى صفوف الإنسانيين الشرفاء في شتى بقاع الأرض. فبعد كل تلك الأعوام التي مضت في سجالات المحافل الدولية والمنظمات الحقوقية دونما استطاعة أحد في وضع حد لدولة الإرهاب الصهيوني، لا بد من استنهاض روح العدالة في شعوب المعمورة كافة ليساندوا الفلسطينيين في نضالهم في سبيل حياة حرة على أرضهم، ولأن القوة، كل القوة تكمن في العامة.