قصص قصيرة

moon, moonlight, night-4919501.jpg

وأضحك مع الفرحان

لا يعلم حقًا سبب هذا التوتر الذي يسري في ساقيه. يتنفّس، يسحبُ الهواءَ بثقلٍ إلى رئتيه وكأنّه يجبره على دخول جسده عنوةً، يشعرُ بصدره يضيق أكثر بعد كلّ شهيق. لا يفهم!

إنّها ليست بالمباراة المهمّة وخصمهم ليسوا بالأقوياء. يحاول أن يُبعدَ الأصوات المزدحمة في رأسِه ليفسحَ مجالًا لصوتِ المدرّب، يركّزُ نظرَه على يديهِ المشيرة إلى اللوح والتي تمرّ مرّةً أخيرة على خطًة اللّعب، تمريرٌ سلِس، دفاعٌ، مباغتةٌ وتسديد. رامي، زميلُه، لديه موهبة خاصة في الثلاثيات، عليه أن يبقى في الخلف، أمّا هو فيجب أن يتواجد تحت السلّة وقريبًا منها دائمًا. يشعرُ بنظرات المدرّب تنفذُ إلى داخله وهو يرميه بنظرةٍ سريعة كما يرمي جميع زملائه، يخشى أن يكون قد شعر بتوتّره وأن يخرجه من الاحتياط سريعًا. 

يتذكّر لينا، صديقته، لماذا أتت لتشجيعه؟ وجودها غير مريح، يربكه، لم يستطع أن يحجمها عن المجيء وهي تقول له بكل حماسة أنّها ستكون هناك من أجله! وستحاول أن تلتقط له صورًا رائعة! “من أجله” و”صورًا”! كم يشعره ذلك بثقلٍ غريب في أعلى ظهره وتشنج في كتفيه. من أجله؟ إنه يستطيع أن يفعل كلّ شيء وحده ولا يحتاج إلى أن يفعلَ أي أحدٍ أي شيءٍ من أجله، لا يريد أن يأخذ من وقت من حوله له! فليحتفظ كلٌّ بوقتِه لنفسه! يسألُ زميله المدرّب ويردّ عليه هو الآخر لكنّ الأصوات تتداخل في رأسه وتصله بهيئة طنين نحل. يعاوده الإحساس بضغط أصابعها على ذراعه، تسري قشعريرة باردة في بدنه يعقبها إحساسٌ بالذنب. لماذا تحبّه؟ لماذا في حين أنّه لم يقل لها أنّه يحبّها لا زالت تهتمّ به وتتصرّف وكأنهما في علاقةٍ حميمة؟ هل تظنّه خجولًا ولهذا لا يعرب لها عن مشاعره؟ إنّه حقًّا خجول ولهذا لا يريد أن يكسرها بفظاظته وأن يقول لها أنّه لا ينظر إليها إلّا كصديقة! لكنّ تصرّفاتها معه لا تترك له منفذًا أخلاقيًّا يطلّ من خلاله عليها بحقيقة مشاعره! 

يتحرّك الجميع. يخرجون إلى الملعب، اقترب وقت بدء المباراة. يعلو صوت صفير الأحذية الرياضية في رأسه، ينظر إلى حذائه وكأنّه قد طُبعت عليه تعابيرُ وجه أمّه القلِق وخوفها من أن يكون هذا الحذاء وسعره الباهظ دون أي نفعٍ لها، فهي كانت بحاجة لطناجر جديدة وكانت تودّ شراء بعض الشراشف…

يربّت المدرّب على ظهره تربيتةٌ مختلفة عن تلك التي تلقّاها من والده قبل خروجه اليوم، تربيتةُ المدرّب فيها بعض الحماس، بعض التشجيع. تربيتةُ أبيه كانت كيدٍ ضائعة في الهواء حطّت بالصدفة على كتفه، كانت خاليةً من كلّ شيء، ولّدت في جوفه فراغًا باردًا.

أصوات المشجعين تقتحم أذنيه، ضحكات رفاقه على نكتة أطلقها أحدهم، ينظر إلى الشاشة، يعاين أشكال لاعبي الفريق الخصم، يخجل من نفسه ومن أفكاره حول أنف ذاك اللاعب وساقي الآخر الطويلتين جدًّا والمقارانات التي ينتجها عقله بينهم وبين زملائه. يشعرُ بثقلٍ في معصميه، هل سيستطيع اللعب مع كلّ ذلك الصّخب في رأسه والفراغ المقرف في داخله؟ يضغط بأصابعه عينيه، يحاول أن يعيد نفسه للمعلب قبل بدء اللعب، يتنفّس، يزفر بقوّة، “أحمد يا معلِّم”! يلتفت نحو مصدر الصوت، “ورّينا شطارتك!” يصرخ الصبي مرّة أخرى، يضحكُ مرجعًا رأسه للخلف. “أسمر” ولدٌ من حيّه يلتقيه داىمًا ليلعب معه ورفقاه كرة السلة، ينبهرون به بشدة، هو بطلهم الأول بلا منازع. يتذكّر البطاقة التي شارطه عليها لحضور المبارة واستحقَّها بجدارة. يبتسم أسمر بحيويته المعهودة، يضحكه صوته ذو البحّة المميّزة وأسنانه الكبيرة نسبة لوجهه الصغير. 

يشعرُ بقدميه تتحول خفيفتين وبطاقة ساحرة تسري في عضلاته، يقلب وجود أسمر مزاجه، يستمتع باللعب، يبتسم طوال المباراة، يشعر بدغدغة لطيفة في دماغه، يركّز نظراته على الطّابة تمرّ سريعًا من لاعبٍ لآخر يقطعها يمرّرها لزميله، تُعاد إليه، يسجّل وبعد كلّ هدفٍ ينظر إلى أسمر ليراه يقفز من مكانه، “أخوي أخوي” يصرخ الولد! 

تنتهي المباراة بتقدّم جيّدٍ لفريقه، يدعوه رفاقه للاحتفال معهم في مطعم قريب، يعتذر عن المشاركة، يريد أن يرافق أسمر إلى الحيّ كي لا يعود وحده، يودّعهم، يسلّم على لينا بعجلة، يشكر لها مجيئها، أسمر في الخارج ينتظره، يراه فيقفز عاليًا ويركض نحوه “يا معلِّم يا معلِّم يا معلِّم”، يضخِّم الصغير صوتَه ويطلقُ تعليقاتٍ مضحكة، لا يستطيع أحمد إزاءها إلا أن يبتسم، تلك الفرحة معدية جدًّا. “ولد كيف جئت؟” يسأله أخيرًا، “أوصلني عمّي في طريقه” يجيبه أسمر، “حسنًا نستقلّ سيارة أجرة معًا إلى الحي”.

في السيارة لا يكفّ أسمر عن سرد اللحظات المثيرة التي شهدها، يطلق أحكامًا على اللاعبين ويمنح كلًّا منهم عدداً من النجوم ، فلان خمس نجوم وآخر ثلاث وذاك لن يكمل مسيرته الرياضية لأنه يلعب من غير روح، ينصت أحمد إليه، يترك له الحديث، يركّز اهتمامه على حركات يديه المنفعلتين، أصوات كثيرة تطرق أذنيه في الوقت نفسه، محرّك السيارة المتعب، صوت الهواء يضرب نوافذها، السيارات الأخرى على طريقهم، أصوات المارّة ترتفع وتخفت كلّما اقتربت السيارة من أحدهم وابتعدت، صوت الراديو، الإعلانات فالأخبار السريعة فالموسيقى، كلّ ذلك يمرّ خفيفًا على قلبه، لا ينزعج.

يهدأ أسمر بعد أن يكون قد أفرغ كلّ ما في رأسه الصغير من ملاحظات، يتكأ برأسه الشقي على كتف أحمد الذي يمعن النظر في تقاسيم وجهه، جبهته الواسعة فأنفه الدقيق وفمه الذي يخفي أسنانًا كبيرة. يغفو أسمر، يحسّن وضعية نومه. يأتيه صوت أبو وديع من الراديو، مع موسيقى العود الناعمة “صبحت أحب الحب… وأضحك مع الفرحان…”، يبتسم لا إراديًّا وقد وجد في مشهده هذا جوابًا على سؤالٍ طالما دار في رأسه كلّما عاد إلى بيته، “لماذا ينجبُ الناس وهم تعساء؟ لماذا يخلّفون أولادًا يورثونهم بؤسهم؟”، “ربّما لأجل لحظة دفءٍ كهذه” يقول لنفسه وهو يمسح وجه صديقه الملائكي الغافي على ركبتيه.