سؤالٌ فكرت به منذ بدء حرب الإبادة على غزّة، أي منذ ما يقارب السنة، فكرت به كعنوان لاسترسال طويلٍ يشكّك بكل شيء رأيته مذ وعيت على هذه الدنيا. لكني لم أتح لنفسي مجالًا للإجابة عنه، لم أرد أن أواجه الإجابة، لخوفي منها ربما. اليوم أيقنت أنني لم أمتلك سوى السؤال حينها ولهذا لم أجب. .هذا الاستنتاج محزنٌ ومخجل، ولكنه حقيقي.
تأثرت بالحرب، أذكر أني بكيت كثيرًا في أوكتوبرالماضي، وأنّ شعور العجز كان محبطًا جدًّا، و أنّ واقع التآمر العالمي على غزة كان مرعبًا، وأذكر أنّ العالم كان شفافًا جدًّا وأنني لم أره بهذا الوضوح من قبل. عالمٌ متوحّشٌ دامي. أذكر أيضًا أنني في الفترة الأولى كنت نشطة على مواقع التواصل الإجتماعي، انستغرام بالأخص، مساهمة في نشر المحتوى ليصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس حول العالم، آملةً آنذاك أن يحقق ذلك تغييرًا ما، أن يزيح حجرًا من امبراطورية الظلام القبيحة.
هذه المرة كان لأيلول النصيب الأكبر من البكاء والجمود العاجز أمام الفاجعة… وهكذا وجدت نفسي أمام السؤال ذاته مجددا: ماذا تصنع بنا الحرب؟
إنها ببساطة دنيئة تكشف للمرء وجهه الحقير الأناني الذي لا يفتأ يهرب منه حتى يظهر إليه، مرة تلو الأخرى، في الأشياء كلها، مسخًا لصيقًا، في العادي جدًّا من يومه، في الطبيعي الذي كان يجب أن يكون.
إنها تبلّد العقل وتسحب الإنسان إلى قوقعة مشاعره الخاصة جدًّا التي يجهل أنها مشاعر عامة ومشتركة.
أن تعيش الحرب، في داخلك ومن وراء الشاشات في حالتي، يعني أن تعدّ الشهداء في اليوم الأول منها وأن تسأل إن كان جميع من تعرفهم بخير في اليوم الثاني، وأن تذهب إلى جنازة شهيد لم تقابله قط في اليوم الثالث، وأن تتعرّف على قرى لم تسمع بها من قبل في اليوم الرابع، وأن تحمل صوت الصحفيين في جيبك أينما كنت وأن تصغي السمع جيّدًا عندما يبدأ المذيع بتعداد مكان وقوع الغارات بشكل مقتضب وسريع لأنها أصبحت أحداثًا ماضية ولأن الحرب دائرة تقضم من بلدك قضمة دامية كل دقيقة وتقضم من عقلك قضمة مسعورة كل ثانية. ثم تجفّ عيناك وكأنها تعلن عليك عصيانا شعوري وترفض النظر إلى كل تلك الأخبار التي لا تتوقف في محطات التيليجرام والتي تصبح بعيدة كلما وصلت رسائل تحمل غارات أعنف.
هكذا تقرأ عينيّ الأخبار بفعل الحرب: أبحث عن اسم مكان وقوع الحدث، لبنان؟ فلسطين؟ بلدتي؟ قريب من بلدتي؟ قريب من مكان نزوح أهلي؟ هل هناك من أعرفه في هذا المكان؟ نعم؟ أبحث عنهم في انستغرام وأحاول أن أطمئن عليهم. لا؟ …
هذا هو المسخ الذي أصبحتُ بفعل الحرب، كتلةٌ مادية تحتاج شعورًا واحدًا فقط: الطمأنينة، يعمل دماغها على الحفاظ على الحياة في محيطها الإنساني كما عرفتها قبل أن يحدّق الخطر في عينيها هازئًا منها بكل ما في هذا الكون من انعدام اليقين ساحبًا من تحت قدميها بساط اللطافة والمبادئ والأخلاق والوعي. يتبلّد دماغها.
ينتظر.
يتوقف عن استيعاب ما يقرأ، يعجز عن التركيز في كتاب أو مقال أو قصيدة، يعجز عن تخيّل القصيدة، ويسأل نفسه متعجبًا كيف كتبوا الشعر يومًا، بل لماذا؟ يتبلّد.
ينتظر.
يرى انعكاس الجسد الذي يقطنه في المرآة، ويراه مطعوجًا على إبريق الشاي، ويراه مفتتًا إلى قطرات ماءٍ صغيرة تزحف عليه هربًا منه تحت صنبور المياه، يشمئز، يتبلّد.
ينتظر.
هذه أنا، مسخٌ يهرب من مسخٍ يهرب من أنانيةٍ تهرب إلى طمأنينةٍ ما، وهمٌ غير موجود في عالمٍ يعتبر أرواحنا رخيصة. مسخ يتنكر من أنانيته بسؤاله عن الأصدقاء وببحثه عن طرق للمساعدة من موقعه البعيد جغرافيًا عن الوطن الملازم مصيريًا له.
تولّد الحرب فينا ندوبًا لا تمحى من الألم والخوف والانتظار، تولّد فينا حروبًا لا تنتهي، حروبًا لا قيمة لها أمام عينيّ طفلٍ يبحث عن أهله الشهداء، أمام طفلٍ فقد شعورًا عزيزًا لم يكبر بما فيه الكفاية بعد ليعلم أن اسمه “طمأنينة”.