Drawing by Mohammed Afefa

غزّة

مشهدٌ أول: زغاريدُ غزّة

فرحُ غزّة معدٍ، حطّم مقاوموها قضبان الظلم، وعبروا. دخلوا أرضهم بكل حرية، هشّموا موزاييك الدولة الوحش، عبثوا بآليّاتها العسكرية، وأحرقوا صور الأمن والأمان.

ما بعد اليوم ليس كما قبله!

كن مقاومًا. قف بكل بسالة وراء مقاومتك. 

“أين كنت صباح السبت السابع من أكتوبر؟” يسأل المحاور.

“ماذا كانت ردة فعلك عندما رأيت ما فعلته حماس؟” يسأل المحاور، أو بالأحرى يستجوب…

هكذا أجيبُ عن أسئلةٍ كهذه:

كنتُ في منزلي، كنتُ قد استيقظتُ في السابعة صباحًا، وأنا أعيش في منطقة تبعد ثلاث ساعات من الزمن عن “البلاد”، وكنت قد قرّرت ألا أتصفّح مواقع التواصل الاجتماعي مباشرة كنوع من التحكم بالذات، تخيّل؟ فتحتُ تطبيق انستغرام في تمام الثامنة أو ما شابه، لم أفهم. لم أستطع أن أرى الصورة كاملةً إلا بعد ساعتين أو أكثر. زغاريدُ غزة في كل مكان. أطفالُها يتنفسون ملء رئاتهم حرية ونصر. نساؤها يرحبن بالوافدين الجدد “أهلا وسهلا ياختي”.

لم أفهم. ولكنني كنت سعيدة ً إلى أقصى حد! عبروا! وسنعبر قريبا! 

“كيف تصف ما حدث يوم السابع من أكتوبر؟”

حسنًا، بجديّةٍ أكثر ودون مبالغة في المشاعر؟ بحياديةٍ تامّةٕ أجيبك: فجر السابع من أكتوبر قامت مجموعة من المقاومين الفلسطينيين في غزة بوضع حدّ لاعتداءات الاحتلال الإسرائيلي اللامتناهية على حريّتها، سمائها، مياهها، بناها التحتية، شكل الحياة فيها، أحلام أطفالها… بعد فشل المجتمع الدولي بكل مؤسساته عن لجم إسرائيل ومحاسبتها على جرائمها بحق الفلسطينيين في غزّة كما وفشلها في ضمان الحريّة وأدنى مقوّمات العيش الكريم لأهل غزّة. وأمّا القتلى الإسرائيليين من جنود، فهي الحرب، ومن مستوطنين فهي الحرب أيضاً إذا ما أردنا أخذ الأمور من وجهة نظر سليمة، فهم جنود الاحتلال الإحتياطيين وأدواته في سرقة الأراضي الفلسطينية وهم بوجودهم في محيط غزة التي جعلها الاحتلال سجن مفتوح على مدى أكثر من خمسة عشر سنة يشكلون حرّاس هذا السجن التعسفي القمعي وهم مجرمو حرب، وأمّا إذا ما أردنا أن نأخذ وجهة النظر الغربية (والعياذ بالله) وأن نعتبرهم مدنيين (والعياذ بالله) فهي أضرار الحرب الجانبية، كما يسمونها في الغرب -collateral damage-.

 

مشهدٌ ثانٍ: غزّة ملجأ الإنسانية

لا لم تنتظر آلة الحرب الإسرائيلية مشهدًا ما لتُصيغه في أعين العالم كما تشاء حتى تُفلِت إرهابها على الفلسطينيين، فهي تقتل وتعتقل وتهدم البيوت وتقصف غزّة منذ سنين. كلّ ما في الأمر أنّ صوت كسر القيود أحدث ضجّةً عالمية كان عليها ألّا تترك هذه الضجّة دون أن تستثمرها لصالح مطامعها وتعطّشها للمزيد من دماء الفلسطينيين. 

الاحتلال يقصف غزّة بوحشية مضاعفة. ليس في غزّةَ ملاجئ آمنة كافية لجميع الغزّيين. ليس في غزّةَ ملاجئ آمنة. ليس في غزّةَ مكان آمن. يستشهدُ في غزّة الأطفال قبل كبار السن. في غزّة أطفالٌ تنضج وتستشهد وهم أطفال. في غزّة تُقتَل الأم وفي حضنها رضيعِها تحمي أذنيه من أصوات القصف، تصلّي لربّها ألا يستيقظ فزعًا من نومه، تصلّي أن ينام نومًا هادئًا حتى يأخذ حاجته الكاملة من الراحة، حتى تستيقظ في وجهه ابتسامة الطمأنينة، تصلّي لربّها أن يستيقظ، وأن تراه ويراها عندما يستيقظ… في غزّة مسنٌّ لا يقوى على حبس دمعته وهو ينظر الى البيت الذي بناه حجر بعد حجر ويقول “فداها”… في غزّة أخٌ يبكي أخاه، طفلٌ صغيرٌ يشرح بأنفاس متهدجة أنّ أخاه لم يمت، أنّ أخاه كان يكلمه قبل قليل، فقط انزعوا الحجر من فمه حتى يعود للحياة من جديد، حتى يكمل كلامه…

في غزّة إنسانية هاربة لم تجد مقعدًا لها في مجلس الأمم المتحدة، ولا سطرًا تقف عليه بين سطور القوانين الدولية. في غزّة لجأت الإنسانية إلى مستشفًى، هناك يرى الإنسان مصيبة غيره فتهون عليه مصيبته، هناك، في المشفى يحنّ الغريب على الغريب لوجعه، وليس في غزّةَ غريب. في غزّة كلّ الناس تعرف بعضها، في غزّة كلٌّ أهلٌ للكلّ، فهاك طفلة فقدت أمّها وهاك أمّ تتبنّاها، وهاك أبٌ فقد ابنه وهاك ولدٌ يتبنّاه.

في غزّة قصف الاحتلال الإسرائيلي مستشفى المعمداني. في غزّة فجّر المجرم المحتل الغاصب الأدوات الطبية، ويدَ طفلٍ كانت تؤلمُه، لملمَ أباه أشلاءه، حملها في أكياسٍ بلاستيكية،  ولكن يدَ الطفل أصبحت تؤلمنا جميعا.

في غزّة يقف الطبيب بعينين مرتجفتين تروي فظاعة المشهد، وسط أشلاء المرضى التي تنتظر أن تُعرف أسماؤها وأن تُحكى أحلامها، وأن تُغنى قصصها، يقف الطبيب ليُريَ العالم ما حدث. في غزّة طبيبٌ مرعوب لا يهدأ، لا ينتهي عمله، لا تنتهي قائمة الانتظار في مشفاه، إلا عندما ينفجر المشفى. يقتلون المرضى، والأطفال، ويقتلونهم مرتين، ثم يقصفون برّادات الموتى، ثمّ لا يكفّون عن قتلهم مرّةً بعد مرّة… 

لا أحد يموتُ في غزّة. نحن نبكي، ولكنَّهم في غزّة أحياء تُرزق.

 

مشهدٌ ثالث: غزّة قلب العالم

أهل غزّة: لن يتمّ تهجيرنا مرّة ثانية. لن نغادر أرضنا. لا لنكبة ثانية.

هكذا هم أهلنا في غزّة، صامدون أقوياء رغم آلامهم الفظيعة. ثمّ، بنظرةٍ شاملة على ما يحدث حول العالم وكيف يتم التعامل مع المظاهرات الداعمة لفلسطين في أوروبا خاصة، تتضح الصورة أكثر. إنّ وقوف سلطات الأبيض الغربي حفيد الاستعمار وحامل رايته بطرق بديلة في زمننا هذا، بجانب وليّ عهده وربيبه في منطقتنا -أي إسرائيل- ليس بالأمر الجديد، لكن ما عرّته غزّة في الأيام الماضية وبيّنته بوضوح أكبر من ذي قبل هو زيف كلّ شيء في أوروبا! زيف ديمقراطيتها، زيف قيمها الأخلاقية، زيف شفافية نقل الخبر ومصداقية الصحافة، زيف احترامها لحقوق الإنسان وحقوق الطفل، زيف حرية التعبير بكل أشكالها، مقالة أم تصريح نائب أم مطالبات شعبية أم رسمًا كاريكاتوريا… لقد رفضوا أي خطاب لا يتناسب مع الصورة التي يريدونها، زيف احترامهم للقوانين الدولية التي تنتهكها إسرائيل كل يوم ولا تحاسب على ذلك. ألم يحن الوقت لتجديد تلك القوانين؟ إن كانت لا تجدي نفعًا فلربما ينقصها شيء ما، بعض العدل وكثير من الصرامة، إن هي إلا أشكال من الكلام المنمق يثرثرها بعض القلقين دون أن يحركوا ثابتًا.

إنّ ما يحدث من تحركات حول العالم لدعم الفلسطينيين في نضالهم نحو التحرر من الاستعمار هو مدرسة سياسية وأخلاقية تؤسس لجيل واع، جيل يعي الفرق بين حرب لا بدّ منها وبين تطهير عرقي، جيل يعلم جيّدًا أنما الحروب في وقتنا هذا تخلق من لا شيء لتنشيط سوق الأسلحة وضمان استمرارية تدفق الأموال المغسولة بدم الأبرياء. 

تُمنع أعلام فلسطين، يُضرب المتظاهرون، يُعتدى عليهم بالألفاظ والتهديد، تَسقط حرية أوروبا، ونفهم، نحن الذين نرى الصورة الأكبر، أنّ الحرية الحق هي تلك التي تقبع بإيمان راسخ في نفوس الفلسطينيين أينما كانوا.

 

هذه هي المشاهد التي تخلّفها غزّة في ذاكرتي، وتبني بها إنسانيتي. 

هذه غزّة، يحاولون محوها ولكنها تنمو فينا وترسم لنا طريق الصواب، طريق الإنسان.

هذه غزّة تناضل من أجل حريّتنا جميعًا.