حبيسة النافذة

تقولين لي أنني أصبحتُ نسخةً من لوحةٍ لڤان جوخ، تضحكين.

أنا لا أعلم من هو هذا الفان جوخ ولم أرَ لوحاته، لكنني أثق بأنّكِ تشبِّهينني بشيء جميل، على الأقل يضحككِ الأمر، وأنا لا أكتفي من وجهكِ الضاحك.

تنصحينني مجدداً أن أقلع عن التدخين. وماذا أفعل طوال اليوم؟ لو تبقين بجانبي، معي في هذا المنزل المقيت بدلًا من زياراتك المتكرّرة في نفس الموعد كلّ يوم لكان عندي ما يسلّيني، لما سألتُ عن السجائر. لو تسحبين شعاع الشمس الذي تجلسين في ضوءه كلّ صباح وتوزعينه في أرجاء البيت لصار أقلّ كراهيةً، لغدا المكوث فيه محمولًا.

تأتين مع أوّل خيوط الشمس المتسللة إلى الغرفة، الفاضحة كميّة السجائر المحتضرة في بطء شديد بين شفتيّ، تراقص الدخان الذي أنفثه في الجو وتكثّفه. تراقصه على مهلٍ ويستجيب هو الآخر بحركاتٍ ثقيلة منتشرًا في الغرفة مغطيًّا كلّ ما فيها بغشاوةٍ من هواءٍ أصفر باهتٍ سقيم، فتكرهين عادتي السامة تلك وتعيدين عليّ في كلّ مرّة أن أحاول أن أخفّف من التدخين وأن أخرج للمشي في شوارع بيروت.

شوارع بيروت، ههه. وبماذا ستنفعني شوارع المدينة؟ أأتمشّى فيها كي أرى بؤسًا مضاعفًا عمّا أراه في الشارع تحت نافذتي؟ إن كان وجه أبي لا يظهر من بين كل تلك الوجوه التي أراقبها يوميّا في هذا الشارع، فهل أجده في شارعٍ آخر؟ هل سيركض نحوي فجأةً ليمنع جسدي الهزيل المتراخي من السقوط؟ هل سيرافقني راويًا لي قصة ذلك المبنى وتاريخ ذاك الشارع ومأساة بائع القهوة الذي كنّا سنلقاه حتمًا في نفس الحي كلّ مرة؟ أبي لم يعد موجودًا، فبماذا ستنفعني شوارع المدينة؟ ثمّ إنّ هذه المدينة العجوز ستلفظ عجوز مثلها تمشي في شوارعها خاوية الوفاض، خاوية الفؤاد من كلّ حب. أنا الأرملةُ المتّشحةُ بسوادٍ دائم، ليس لديّ ما أقدّمه لها سوى بعض النكات الوضيعة. ستنفر مني وترفضني.

ها هو الشارع تحت نافذتي يستيقظ أخيرًا. انظري إنّه الصبي نفسه لليوم الرابع، يبحثُ في نفس حاوية القمامة ولا يظفر بشيء. غبي. إنّه حيٌّ راقٍ يا ولد، سكّانه لا يرمون الطعام في الحاويات بل يعيدون تدويره، يحوّلونه سمادًا لجنائنهم أو يبعثون به إلى مأوى الكلاب القريب، ملوك الحنية أهل هذا الحي، أنت لا تعرفهم، وأتمنى ألّا تعرفهم طوال حياتك ههههه.

وهاكِ حبيب قلبك العم محمود، تذكرين كم كنت تترجينني لأسمح لك بالشراء من الكعك الذي يصنعه ويبيعه؟ كنتِ تنجحين في كسر عنادي دائمًا. الأكل من عربات الشوارع يا لها من عادة مقززة، ورثتها عن جدّك. لم أستطع أن أعتاد الأمر، تمامًا كأمي، كلّما تقدّم بي العمر كلّما صار الأمر مقرفًا أكثر بالنسبة لي. لا زالت كلماته بصوته الرفيع تدقّ أذنيّ بحدّة عندما يمرّ “كعك محمود، كعك بالبيت معمول، بتاكل وبتكون مبسوط” ههههههه أبسط وأسوأ جملة ترويجيّة. أحيانًا أشعر برغبة قويّة للنزول إلى الشارع وشراء كعكة لي واخرى لكِ ثمّ أعود لأعدّ شايًا حلوًا خفيفًا كما تحبين..

هل أخبرتكِ عن مدام إيڤا؟ ها هي تخرج إلى عملها متأنّقة كعادتها، تمسك حقيبتها السينييه بأطراف أصابعها وتجلس في المقعد خلف سائق سيارتها الذي يصبح سائقها شخصيًّا من حين لآخر هههههه. إنّها المرأة الثرية الكليشيه التي لا يعجبها شيء ولم تكتفِ بما لديها ولم تجد ما يضيف إلى أيّامها بعض الإثارة والحياة إلّا عند سائقها ذاك هههه. وربما بعض الحب، من يدري؟ لا لا هؤلاء لا يعرفون حبًّا ولا بطيخ، شهوة وانجراف بأهواء عابرة لا أكثر. مسكينة مدام إيڤا هههه. أشعر بأن دماغي يقهقه عندما أسخر منها ومن حياتها. الاستهزاء بالفقراء ينتج نكات وضيعة لكنّ الاستهزاء بالأثرياء ممتعٌ أكثر هه.

وهذا فراس يخرج من دكانه ليدخّن سيجارته، إنّها اللحظة الوحيدة التي أكره فيها عادة التدخين إذ تذكرني بأن هناك ما هو مشترك بيني وبين هذا المنحط. إنني أراقبه بقرفٍ مراقبةً لا تغفل عن تفصيل، تمرُّ بجانبه فتاة ما فيخفض بصره وما إن تتجاوزه حتى يعلّق نظره على مؤخرتها إلى أن تغيب عنه. أكاد أجزم أنّ لديه دفترًا يسجّل فيه عدد المؤخرات التي صادفها في نهاره مع طولها وعرضها وربّما أعطاها تقييمًا ما! يخطر لي أن أرمي بيضةً على رأسه، لا أعلم متى أقوم بهذا الفعل حقًّا لكنني متأكدة أنها ستكون المرة الوحيدة التي يمتلك فيها بيضة ما ههههه.

يا إلهي! هل رأيتِ ما حدث؟ انظري، أو لا، لا تنظري. أنتِ تخافين من رؤية الدّم! إنّه الولد الفقير الذي رأيناه أول الصباح، كان.. كان يركض باتجاه الشارع المقابل عندما صدمته سيارة مسرعة… يا إلهي أظنّ.. أظنّه قد مات. غارقٌ رأسه ببركةٍ من دمائه، فاتحٌ ذراعيه للسماء.. أظنّه قد رحل عن هذا العالم يابنتي، المكان ذاته، حادث سيّارة، تمامًا كما رحلتِ أنتِ هه. 

تمامًا كما غفَوتِ يومَها إلى الأبد…