أسمتني أمي “سراب”، قالت لأنها كانت تتخيّل لنفسها حياة جميلة مع أبي وبعد أن حملت بي اكتشفت أنّ كلّ أحلامها كانت سرابًا، وهمًا، و أنّه كان حقيرًا جدًّا معها، لم يكن يحبها، كانت نزوة، تزوّجها خوفًا من أبيها، كان يحترمه كما الجميع ولسوء حظ أمّي مات جدّي باكرًا، فشعر أبي أنه حرّ وأنّ ما كان يربطه بأمّي قد تلاشى.
أصبح يسيء معاملتها وأمسى يلعن عيشتهما، صبرت عليه علّه يتغيّر، كانت حمقاء، تعلّقت به، كيف يعتاد الإنسان من يؤذيه؟ لم تطل به الأمور قبل أن يهجرنا، أمي كانت ممتنة لحقيقة أنه لم يطلِّقَها، لم تكن تريد أن تتزوج ثانية. تحججت بي، قالت لخالي الكبير أنها لا تريد أن تتركني حتى لا أكبر لأصير ابنة شارع، وأنها تريد أن تربيني تربية صالحة، كانت تكذب، كانت لا تزال تحبّه وتنتظر عودته، لم تهتم بي يومًا، كانت حزينة طوال الوقت، تساعد جدتي في أعمال البيت، وتحضّر معها المونة للبيع و تدندن “بخاف عليك وبخاف تنساني…” كرهتُ أم كلثوم بسببها.
جدّتي كانت كل شيء، كانت تفرك زيت اللوز بين راحتيها وتمسّد شعري ثمّ تجدله وهي تغني “شعرك حلو ومنقّى… وبزيت اللوز بيبقى… معطر وملمع يا عين… تمشي و يحكولك يا زين…”. أمي لم تحممني يومًا، لم تبتسم لي يومًا ابتسامة كاملة، كانت إذا ابتسمت عيناها غطت نصف وجهها بمنديل وحولت تلك الابتسامة إلى دمعتين سريعتين، لم تعطني شيئًا كاملًا، لا ابتسامة ولا غمرة ولا دموع، كان قلبها يخطو نحوي فأشعر به قد تجمّد في منتصف الطريق.
أذكرها تمثالًا أحمق، لا أذكر أبي، أحمد الله على ذلك، لكن ذلك الاسم الذي اختارته لي أمي وسم حياتي، فصارت كلها عبارة عن وهم وسراب وخيال شفاف هش، لا شيء فيها يتحقق، لاشيء يصل إلى منتهاه، تقف الأشياء في حياتي في منتصف دربها وتتعطّل تمامًا كقلبها. يا ليتها استطاعت أن تحبّ من جديد وأن تسعد من جديد، يا ليتها تركتني للحياة تحوّلني حسب هواها، زوجةً محترمة لابن سعيد الخضرجي، أو متعةً لأمين أجمل شباب الضيعة، لم تستطع أن تتركني، تمسكت بأطراف ثوبي، كلما أردت أن أمشي في طريق أعاقت حركتي وتعثّرت بها. تمسكت بي أكثر بعد موت جدتي، أصبحنا نحضّر المونة سويًّا ونبيعها لنقتات، وكان ذلك كافيًا لسدّ احتياجاتنا، وعدتها أن أحضّر المونة معها حتى لو تزوجت، وعدتها أن أبقى، يومها ابتسمت نصف ابتسامة، تنهّدت ولم تستطع أن تنظر إليّ. كنت أشعر بجليد في ركبتيّ عندما أحدّثها يمنعني من الحراك، وبثقل في رقبتي يستحيل معه أن أرفع رأسي للنظر إلى وجهها، وكنت أسمع الكلام يخرج من فمي بطيئًا وكأنه يخرج من بئر عميق، وكنت لا أسمع شيئًا يخرج من فمها، لا شيء، كانت تصمّ أذنيّ بصمتها المطبق، وكنت أبكي كثيرًا قبل أن أغفو كلّ يوم.
أتخيّل أحيانًا لو أنّها تركتني أكبر وحدي بعفوية كما البابونج البرّي، لو تركتني أخرج وحدي كما تفعل العصافير، تطير وحدها وتعود وحدها، أبتسم وأنا أتخيّل كل ذلك، وتوقف دمعة تكرج على خدي ابتسامتي في منتصفها، فأترحّم على تلك التي أورثتني نصف الشعور، وأبكي كلّ ذلك السراب في رأسي، وأعود لإنهاء عملي في تحضير المونة وحدي، كي أبيعها وحدي، وأشتري بثمنها بنًّا أصنع منه قهوةً أشربها كلّ يومٍ وحدي.